فصل: تفسير الآيات (34- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (34- 35):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}
يأكلون اموال الناس: يأخذونها بغير حق وبطرقٍ غير مشروعة. يصدون عن سبيل الله: يمنعون الناس عن معرفة الحقيقة. يكنزون الذهب والفضة: يخزنونها.
بعد أن بين الله تعالى في الآيات السالفة كيف بدّل اليهود والنصارى ديانتهم واتّخذوا أحبارَهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، بيّن هنا سيرةَ كثيرٍ من هؤلاء الرؤساء الدينّيين في معاملاتهم مع الناس، ثم أوعدَ الباخِلين الذين يكنزون الذهب والفضة في خزائنهم ولا ينفقون منها في سبيل البر والخير- واعَدَهم بالعذاب الأليم في نار جهنم.
{يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}.
يا ايها المؤمنون: اعملوا أن كثيراً من علماء اليهودِ ورهبان النصارى يستحلُّون أكْلَ أموال الناس بغير حق، ويستغلّون ثقة الناس فيهم واتّباعَهم فلم في كلّ ما يقولون، ويصدّون الناسَ عن الدخول في الاسلام، ويَحْمِلونهم على الطعن فيه بما يبثّونه من تعاليم تخالف الواقع.
وقوله تعالى: {ان كثيراً من الأحبار والرهبان} فيه دِقة واحتراز، فإن بينهم من لا يأكلُ أموال الناس ولابد من أفرادٍ في أية جماعة من الناس فيهم بقيةُ خير.
وأخذُ اوال الناس بغير حقٍّ شرعيّ له طرق عديدة، منها الرشوة لأجل الحكم والمساعدة على إبطال حق أو إحقاق باطل. وهي حرام على كلّ من أخذَها سواء اكان من الرؤساء الدينيّين أو من الموظفين والحكّام...
وكذلك الرّبا، فإنه من اكبر الفواحش. ومنها أخذُ المال جُعلا على مغفرةِ الذنوب، ومنها أخذُ الأموال على الفتاوى لتحليلِ الحرام وتحريم الحلال. وهذا من أشدّ الذنوب واكبر الكبائر، كما قال تعالى مخاطبا اليهود: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
{والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
والذين يجمعون الأموالَ من جميع أصنافها ويكنزونها في خزائنهم، ولا ينفقون منها في سبيل الله بأن يُخرجوا زكاتها، ويتصدّقوا منها لبناء المدارس والمتشفيات، ودور الأيتام والدفاع عن الوطن والعقيدة- فهؤلاء أنذِرْهم ايها الرسول الكريم بعذابٍ موجع.
وقد ورت عدة روايات عن الصحابة والعلماء المجتهدين أن المال الذي تؤذّى زكاتُه ليس بكنز، وهذا صحيح. ولكن هناك واجباتٍ أُخرى تستلزمها الضروةُ فيجب على اصحاب الاموال ان يشاركوا فيها مثل الجهاد بناء المدار والمساجد والمصحّات وغير ذلك، والذي يدخلُ تحت قوله تعالى: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19].
{يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}.
يؤتى بهؤلاء الناس يوم القيامة ويوقَدُ على هذه الأموال في نار جهنم ثم تُحرق بتلك الاموال المحْمَاة جباهُ أصحابها، وجنوبُهم وظهروهم، ويقال توبيخاً لهم: هذا ما ادّخرتموه لأنفسكم ولم تؤدوا منه حقَّ الله.
ان ما كنتم تظنّونه من منفعةٍ في كنزه لأنفسِكم قد كان لكم ضُرّاً، فقد صار في الدنيا لِغَيركم، وعذابُه في الآخرة لكم، فذوقوا اليوم العذاب الشديد.
ومن أكبر أسباب الضعف الظاهر الذي ناره في مجتمعاتنا العربية والإسلامية البخلُ والشحّ المستولي على ارباب الاموال فهم لا يبخلون على شهواتهم بانفاق الملايين، أما حين تُطلب منهم الحقوق الواجبة من اجل الدفاع عن الاوطان وصد المعتدين- فإنهم لا يؤدون ما يجب عليهم.
وقد وردت عدة روايات في نزول الآية، منها حديثُ أبي ذرّ الذي أخرجه البخاري وغيره، قال زيد بن وهب، أبو سلميان الجهني، وهو تابعي ثقة: ممرت بأبي ذرٍ بالرَّبَذَة (موضع بين مكة والمدينة) فقلت: يا ابا ذر، ما أنزلك هذه البلاد؟ فقال: كنت بالشام فقرأت (والذين يكنزون الذهب والفضة) فقال معاوية: هذه نزلت في أهل الكتاب، فقلت: إنها فينا وفيهم. فصار ذلك سبباً للوحشة بيني وبيه، فكتب اليَّ عثمانُ أن أَقبلْ إليّ. فلما قدمت المدينة انحرف عني الناسُ كأنهم لم يروني من قبل. فشكوت إلى عثمان، فقال: تنحَّ قريبا. فقلت: اني واللهِ لم أدَع ما كنت أقول، وكان يندّد بأصحاب الأموال، ويخوّف الناسَ من جمع الأموال وخزنها، وكان يحدِّث الناس ويقول لهم: لا يبتن عند أحدِكم دينارٌ ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعدّه لغيرم... إلخ.
وأخرج أبو داود والحاكم وابن أبي شَيبة وغيرهم عن ابن عباس: قال: لما نزلت هذه الآية {والذين يكنزون الذهب والفضة} كَبُرَ ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع احدٌ منا أن لا يُبقي لِولِده مالاً بعده، فقال عمر: انا أفرَج عنكم، فانطلق وتبعه ثَوْبان، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيّ الله، إنه قد كبر على اصحابك هذه الآية. فقال: «إن الله لم يفرض الزكاةَ الا ليطيِّبَ بها ما بقي من اموالكم، وانما فُرضت المواريثُ عن أموالٍ تبقى بعكم، فكبَّر عمر رضي الله عنه» يعني من فرط سروره. وذلك يعني ان المال الذي أخرجت زكاته ليس بكنز.

.تفسير الآيات (36- 37):

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}
الشهور: واحدها شهر هو جزء من السنة القمرية يقدر بدورة القمر حول الأرض، ويسمى الشهرَ القمري، ويكون 29 يوما، وثلاثين يوما. منها اربعة حرم: جمع حرام، وهي من الحرمة بمعنى التعظيم. القيم: الصحيح المستقيم النسيء: التأخير، تأخير حمة شهر إلى شهر آخر كان العرب في الجاهلية يؤخرون شهراً إلى شهر آخر فكانوا مثلا يؤخرون المحرَّم إلى صفر، وهكذا وقد أبطله الاسلام.
{إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله...}.
ان عدد الشهور في السنة القمرية اثنا عشر شهرا في حكم الله وتقديره، وفيما بيّنه في كُتبه منذ بدء العالم، ومن هذه الاثني عشر شهراً اربعةُ أشهرٍ محرّمة معظّمة يحرم فيها القتال، وهي: رجب وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم.
{ذلك الدين القيم}.
والتحريم للأشهر الاربعة المذكورة هو دينُ الله المستقيم، الذي لاتبديل فيه ولا تغيير، فلا تظلِموا أنفسَكم في هذه الأشهر باستحلال القتال فيها، أو امتناعكم عنه إذا هاجمكم الأعداء. قاتِلوا أيها المؤمنون كلَّ من يقالتكم من المشركين جميعا، ولو كان ذلك في الأشهر الحرم. وذلك لأنهم انما يقاتلونكم لاطفاء نور الاسلام، فأنتم أَولى بالاتحاد لدفع العدوان وجعل كلمة الله هي العليا.
{واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين}.
ينصركم ويعينهم ويوفقهم لما فيه خيرهم وصلاحهم. ومن كان الله معه فهو المنصور بلا جدال.
وقت وقَّت الله بالأشهر القمرية لأنها هي الاشهر الجارية على سنن الطبيعة لا زيادة ولا نقصان، ولتدورَ المناسكُ على جميع فصول السنة.
{إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}.
ورثت العربُ من ملّة إبراهيم وإسماعيل تحريمَ القتال في الاشهر الحرم لتأمين الحجّ وطُرُقه. ولما طال عليهم الأمد غيّروا وبدّلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر، إذا كان يشِقُّ عليهم تركُ القتال وشنّ الغارات مدة ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا يحلُّون شهر المحرَّم ويؤخرون تحريمه إلى صَفَرَ لتبقى الأشهر الحُرُم اربعة.
وقال ابن كثير: انما كانت الاشهر المحرمة اربعة: ثلاثة سَرْد متوالية، وواحد فَرْدٌ وهو رَجَب، وذلك لأجل اداء المناسك، فحُرِّم قبلَ أشهرِ لاحج شهرٌ وهو ذو القعدة لأنهم يقعُدون فيه عن القتال، وحُرّم ذي الحجةلأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداءِ المناسك. وحُرّم بعده شهر آخر هو المحرَّم ليرجِعوا فيه إلى أقصى بلادِهم آمنين. وحرم رجَبُ في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعمار به، لمن يَقْدَم اليه من أقصى الجزيرة فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا.
قال ابن اسحاق: كان اولَ من نَسأَ الشهور على العربِ، فأحلَّ منها مان حرّم اللهُ، وحرَم منا ما أحلّ الله عز وجل- (القَلَمَّس) وهو حُذَيفة بن فقيم الكِناني، ثم قام بعده أولاده واحفاده بذلك.
وكان آخرَهم جُنادةُ بن عوف، أبو ثمامة، وعليه قام الاسلام.
فكانت العرب إذا فرغت من حجّها اجتمعت إليه، فقام فيهم خطيباً فحرَّم رجَباً وذا القعدة وذا الحجة ويُحِلَّ المحرّم عاماً ويجعل مكانه (صَفَرا) ويحرّمه عاما ليواطئ عدةَ ما حرّم الله، فحيلّ ما حرّم الله، ويحرّم ما أحلّ الله.
ومعنى: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر...} الآية.
إن تأخير هذه الأشهر الحُرُم أو بعضِها مما رتّبها الله عليه (كما كان يفعل أهل الجاهلية) هو إمعانٌ في الكفر، به يزداد الذين كفروا ضلالاً فوق ضلالهم، وذلك لجعلهم الشهر الحرام حلالا. لقد زيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم بهذه الشُّبهة الباطلة، واللهُ لا يهدي القوم الضالين المصرّين على كفرهم إلى طريق الخير.

.قراءات:

قرأ نافع برواية ورش: {انما النسيُّ}، والباقون: {النسيء} بالهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: {يُضَلُّ} بضم الياء وفتح الضاد، وقرأ يعقوب: {يُضِل} بضم الياء وكسر الضاد. والباقون: {يَضِل} بفتح الياء وكسر الضاد.

.تفسير الآيات (38- 40):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}
انفروا في سبيل الله: أقدموا على الجهاد وأسرعوا في الخروج اليه. اثاقلتم: تباطأتم. في الغار: الغار هنا هو غار ثور الذي لجأ اليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه يوم الهجر. سكينته: سكون النفس وطمأنينتها.
الكلام من هنا إلى أواخر السورة في غزوة تبوك، وما لابسَها من هتك ستر المنافقين وضعفاء الايمان، وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق. وهناك بعض الأحكام تخلّلت الآيات جرياً على سُنة القرآن في أسلوبه الحكيم.
ومناسبة الآيات لِما بلها ان الكلام السابق كان في حُكْم مشاكلِ اليهود، وبيانِ حقيقة أحوالِهم المنحرفة، وبيانِ بعض عقائد العرب في الجاهلية وإبطالها.
والكلام هنا في غزوة تبوك، ومواجهة الروم ومن يشايعهم من عرب الشام، وجميعهم نصارى. وكانت المعركة في رجبَ، سنةَ تسعٍ للهجرة، المصادف لشهر تشرين الثاني.
وتبوك موضع في منتصف الطريق بين المدينة، ودمشق، تبعد عن المدينة حوالي 600 كيلو متر، وعن دمشق حوالى 700 كيلوا متر.
كان مُلك الروم يشمل بلاد الشام، وسمعوا بقوة الإسلام، فخاف ملكهم هِرقْل على دولته. لذلك بادر إلى جمع الجيوش ليهاجم المسلمين في دراهم. وقد نقل هذه الاخبار عددٌ من التجار الآتين من بلاد الشام، فنذب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستنفرهم إلى قتال الروم. وتجهّز المسلمون حتى اجتمع جيشٌ كبير بلغ ثلاثين الفا. وقد تبارى المسلمون في البذل والعطاء، فدفع عثمان بن عفان رضي الله عنه الف دينار، وجاء أبو بكر بكل ما يملك، وجاء عمر بنِصف ما يملك، وتطوع الناس بقد ما يستطيعون.
كان الوقت في أواخر الصيف والحر الشديد، والسفر طويل وشاق، ولذلك سُميت غزوة العُسْرة. كانت الثمار قد طابت بعد نضجها، والناس يحبّون المقام لجمع ثمارهم، ويكرهون الشخوص آنذاك، ومن هنا تخلّف المنافقون وتعّللوا بشتى المعاذير. وكان بينهم اربعة من كبار الصحابة هم: كعب بن مالك، وهلال بن امية، ومرارة بن الربيع، وأبو خيثمة، وجاء أبو خيثمة إلى داره فوجد زوجتَيه قد مهّدتا له الفراش، وهيّأتا له كل سبيل للراحة، فلما وجد كل هذه الرفاهية في منزله قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضِحّ (الشمس) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظلّ بارد، وطعام مهيّأ، وامرأة حسناء، وفي ماله مقيم! ما هذا بالنَصف. ثم هيّأ نفسه ولحق بالرسول وجيشه.
وسأتي خبر إخوانه الثلاثة الذين خُلّفوا فيما بعد.
ومضى الجيش حتى وصل تبوك ولم يلقَ حربا، وقد عقدت صلحاً مع حاكم تبوك وبعض حاميات الحدود، وعاد الرسول وجيشه إلى المدينة. واستغرقت هذه الرحلة نحو عشرين يوما.
{يا أيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض}.
يا أيها المؤمنون، ما لَكُم حِينما نَدَبكم الرسولُ إلى الجهاد في سبيل الله تباطَأَ بعضُكم عن الخروج، وأخلّدوا للراحة واللذة!
وكان من أسباب تثاقُلهم ما روى ابن جرير عن مجاهِد قال: اُمِروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد حُنين وبعد الطائف، اُمروا بالنفير في الصيف حين اخْتُرِفَت النخل (قُطفت) وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم الخروج، فقالوا: منا الثقيلُ وذو الحاجة والشغل، والمنتشِر به أمْرُه في ذلك كله.
{أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ}.
هل آثرتم لذّات الدنيا الفانية على سعادة الآخرة الكاملة، ونعيمها الدائم!؟ ما ها الذي تتمتعون به في الدنيا وما لذائذها المشوبة بالمنغّصات إلا تافهاً أمام متاع الآخرة العريض! انه لايرضى به عاقل ولن يقبله.
روى أحمد ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعلُ إصبعَه هذه في اليمّ، فلينظْر بِمَ ترجع- واشار بالسبّابة».
{إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً}.
إن لم تستجيبوا للرسول، فتخرجُوا للجهاد يعذّبكم الله عذاباً أليما في الدنيا يهلككم به، ويستبدل بكم قوماً آخرين، يطيعونه ولا يتخلّفون عن الجهاد. إنكم لا تضرون الله بهذا التخلف شيئا.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قادر لا يُعجزه عقابكم ولا نُصره دِينه بغيركم: كما قال تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38].
ثم بعد ذلك رغّبهم في الجهاد وبيَّن لهم أنه تعالى هو الذي ينصر نبيّه على أعداء دينه، سواء أعانوه ام لم يفعلوا، وهو سبحانه قد فعل ذلك والرسول في قلّة من العدد، والعُدوُّ في كثرة، فيكف واصحباه الآن كثيرون، والعدوُّ قليل!!.
{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}.
ان لم تنصروا رسولَ الله فإن الله كفيلٌ بذلك. فلقد أيَده ونَصره حين أجمعَ كفّرا قريش على قتله، واضطروه إلى الخروج من مكة مهاجراً، وليس معه الا أبو بكر ثاني اثنين في الغار. والغارُ هو غار ثَوْر على ساعةٍ من مكة إلى جهة اليَمَن. وقد مكثا فيه ثلاث ليالٍ، وبينما هما في الغار اقتفى اثرهما نفر من المشركين، فخاف أبو بكر على حياة الرسول، فقال له رسول الله: لا تحزن إن الله معنا، ولن يصلوا الينا.
روى الامام أحمد البخاري ومسلم عن أنَس قال: حدثني أبو بكر قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فنظرتُ إلى أقومِ المشركين، وهم على رؤسنا فقلت: يا رسولَ الله، لو ان أحدَهم نَظَر إلى قدميه لأَبصرَنا تحت قدميه. فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثُهما».
{فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا}.
عند ذلك انزل الله الطمأنينة على رسوله، وأيّده بجنوه عنده لا يعلمهم إلا هو سبحانه، انتهى الأمرُ بأن جعَلَ كلمةَ الشِرك وشوكتَهم هي السفلى، وكلمةُ الله وهي دينه، هي العليا بظهور نور الاسلام.
{والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
والله متّصفٌ بالعِزة لا يُقهر، حكيم إذ يضع الأمورَ في مواضعِها. توقد اقتضت حكمتُه ان ينصر نبيه بعزّتهن ويُظهر دينه على جميع الأديان.

.قراءات:

قرأ يعقوب {وكلمة الله} بالنصب، والباقون بالرفع.